حين أعود إلى بدايات تعرفي على الانترنت، ومتابعتي للمواقع، أكتشف أني لم أنجذب كثيرًا لعالم المنتديات، كنت أتابعها من غير أن أشارك فيها إلا في بعض المحاولات الخجولة.
لكن عندما تعرفت إلى الفيس بوك لأول مرة في المرحلة المتوسطة أدمنته تمامًا، ولاحقت كل منصة افتتحت بعد ذلك، وشاركت فيها بحماس غامر، من تويتر، إلى ثريد، مرورًا بسناب شات، وانستقرام، وباث.
بمرور الموقت فقدت هذه المنصات كل ما كان يحفزني لها، وفقدت اهتمامي في التفاعل معها، وانسحبتُ منها جميعًا عدا انستقرام، هذا التطبيق الذي كنت أنتظره بشغف حين كان محصورًا على مستخدمي الايفون، بينما كان جهازي هو النسخة الأولى من جوال جالكسي من سامسونغ.
أتذكر فرحتي عندما أُتيح التطبيق لمستخدمي أندرويد، حملته على الفور، وصوّرت زهرةً تفتّحت لتوّها في حوض صغير أمام عمارة جدي رحمه الله، واستعملت خاصية التعتيم الجزئي في بهجة طفولية لا تُنسى.
أحبّ انستقرام بخصائصه المختلفة، وميزاته الكثيرة، ومن آخرها ميزة الـ note التي لا تظهر إلا لمن تتابعهم ويتابعونك، أحبّ أن أكتب فيها كل مرة اقتباسًا أو قطعة من بيت شعري أدندنه خلال يومي، وأجد من الأصدقاء تلقيًا مختلفًا لما أكتبه كلّ مرّة، يدفعني لتأمل الاقتباس أو البيت بشكل مختلف.
كتببت قبل أسبوع على الميزة هذا الاقتباس “فأبكي على ما فات ..”، وجاءتني ردود متوقعة وحكيمة، في التهوين من أمر الدنيا وما يفوت منها، وعدم الندم على ما مضى من الأيام.
كان الاقتباس قطعةً من بيت أحبه لقيس بن الملوّح، قيس ليلى، يقول فيه:
“فأبكي على ما فات منّي صبابةً وأندبُ أيّام السرورِ الذواهبِ”.
عرفتُ قيس بن الملوّح أوّل الأمر من كتاب غير شائع وجدته في طفولتي بمكتبة والدي، اسمه “الحبّ الخالد”. لعبت المفردتان لعبهما في خيالاتي، وقادني الفضول إلى سرقة الكتاب من والدي وقراءته، ولم أرده إليه أبدًا، بل أخذته معي عندما صارت لي مكتبتي الخاصة بعد زواجي.

على غلاف الكتاب لوحة لشاب بعين كحيلة وسكسوكة معاصرة، ينظر في فرح إلى فتاة ممتلئة الوجه وكحيلة أيضًا، ومن خلفهما خيمة، تحيط بها نخلتان متعانقتان، مكتوب على الغلاف أن الكتاب من إصدارات دار الكتب الشعبية بلبنان، والتي أصدرت الحكايات الشعبية الأخرى مثل سيرة عنترة بن شداد، والظاهر بيبرس، وتغريبة بني هلال، وسعر الكتاب عشر ليرات لبنانية.
ليس للكتاب مؤلف، فهو مجرد صياغة لقصة قيس وليلى مأخوذة من كتاب الأغاني، يسرد القصة مازجًا خلالها قطعًا من قصائد قيس بن الملوّح في حبيبته ليلى، وتجد بين الصفحات رسومات تعبيرية لأحداث القصة، وهو ما ناسب طفلًا يبحث عن الحب، والشعر، والقصة، والرسومات.

في ذلك الكتاب قرأت لأول مرة هذا البيت الجميل، على سريري بغرفتنا المشتركة مع شقيقي سلمان في بيت النزهة قبل أن نتفرق بين البيوت والأحياء والمدن، وبجواري لمبة صغيرة سهّارية تتغير شدة إضاءتها بمجرد لمسها، اشترتها لي والدتي من كشك صغير في سوق البوادي. كانت تلك اللحظات من أيّام السرورِ الذواهبِ.
كان قيس بن الملوّح يستذكر أيّامه في عذاب، وربما استعذب عذابه هذا، ولكني أحبّ هذا البيت لأنه يعبّر عن مذهب شخصي لي في الاعتراف بمشاعر الندم والتحسر، واستذكار الأحلام والأمنيات والفرص الضائعة، وعدم التكبر على ذاكرتي.
أتفهم أحيانًا حين أسمع من ضيف في لقاء من اللقاءات يقول بأنه لم يندم على قرار ما، وأن هذه القرارات التي اتخذها، والمسارات التي لم يتمناها صنعت ما هو عليه الآن، إلى آخر هذا الكلام المكرر الذي يظهر قائله واثقًا وصلبًا وسعيدًا، فلا أحد يُريد أن يظهر أمام الآخرين بغير ذلك.
لكني أستغرب حين أسمع مثل هذه الكلمات في جلسات خاصة، أو أقرأه في مذكرات لشخص لم يعد يبحث عن إنجاز جديد، أو اعتراف ما، أو يخاف من تضييع مستقبل معين إن أدلى بمثل هذا النوع من الاعترافات.
أما أنا فأندم وأتحسّر، وأتذكر لحظات لا يُمكن تكرارها من أيّامي الذواهب، وأفكّر في أمنياتي، وفي الفرص التي هربت مني أو هربت منها، وفي الأحلام التي عاشت بداخلي سنوات وما عاد يُمكن لها أن تتحقق، المهم دائما ألا يتحول هذا الندم والتذكر والتحسر إلى سخط، وألا يعيق سيري واستمتاعي بحاضر أيامي ومستقبلها.
أُحبّ أن أمنح نفسي فرصة التأسي على ما فات، تذكر كل ذلك واستعادة شعوري الساذج والجميل أثناء تمني أمر ما، وأجدُ في نفسي أحيانًا حزنًا على فوات بعض الأحلام والأمنيات، وأحيانًا أخجلُ من بعضها، حتى قرأت في رواية “جسور مقاطعة ماديسون” كلامًا جميلًا على لسان بطلها الذي يقول:
“الأحلام القديمة كانت أحلامًا جميلة؛ لم تتحقق، لكني سعيد لأنني حلمت بها”
وهذه فكرة حلوة، فدوافعنا لبعض الأحلام شديدة النبل، وهي تدل على طيب نفوسنا وسموها، وبعضها تدل على طموح أخاذ، كما أن بعض الأحلام تكشف عن رغبتنا في التضحية والبذل والعطاء، حتى ولو لم نحقق أيًا منها.
وعلى كل الأحوال يكفي أننا حلمنا، فكم من أناس عاشوا طويلًا من غير أن يحلموا، وفي الحلم بحد ذاته مضاعفة للحياة، وعيشٌ لها فوق عيشنا العادي.
كتبتُ مرة على حسابي في تطبيق ثريد، الذي تحوّل إلى فناء مدرسي لطلاب الثانويات والجامعات يكتبون عليه يومياتهم: “أشعرُ الليلة بنداوةٍ في ذاكرتي، كأن استذكاري لبعض اللحظات الحلوة القديمة يغسل عن ذاكرتي ما استتر في ظلالها من دنس الأيّام”.
تعلمتُ بالطريقة الصعبة ألا أتكبر على ذاكرتي، ولا أتجاهلها، وأن أمنحها مساحةً للإفصاح، إنها رغم كل شيء ليلاي، وأنا قيسها الذي لا ينوي أن يموت في عذابها، ولكن أن يعيش في استعذابها.
اكتشاف المزيد من دفاتر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ماشاء تبارك الرحمن، كلام جميل ومعناه عميق، كنت قد قرأت قبل يومين هذا الاقتباس لوليد سيف:”خسرتُ حلمًا جميلًا ولكني لم أخسر مصنع الأحلام، نفسي”.
بالنسبة لتجربتي عشت حياتي ثلثيها في الأحلام، الأحلام حتى لو لم تتحقق إلا إني أصبحت أومن بها، فهي كالوقود للشخصيات العاطفية، أعتقد الفانتازيا أيضاً تعتبر رافد لهذه الشخصية، قبل فترة شاهدت لقاء مع ممثل سوري، من ضمن ماقاله كونه أب، “دافعت عن أحلام أبنائي”، كلمة منعشة بحق.
إعجابLiked by 1 person
يا سلام
إعجابLiked by 1 person
حاولت أتخلى عن بعض الأحلام، فأبت إلا أن تحقق!
إعجابLiked by 1 person