في بدايات شتاء العام الماضي، استيقظتُ بعد غفوةٍ مفاجئة ونكدةٍ بعض الشيء، كانت الساعة تُشير حينها إلى العاشرة ليلًا، أي أنني سأدخل في دوّامة جديدة من إصلاح عطب ساعتي البيولوجية، ومقاومة النوم لعدّة صباحاتٍ قادمة.
تعلمتُ ألا أزيد انزعاجي انزعاجًا، وأن أوقف الخسارات باستعادة مزاجي، أخذتُ كتبي، ودفاتري، وآيبادي، وركبتُ السيارة بلا خطةٍ واضحة.
تستقبلُ جدة شتاءها بمزاج رائق، لذا قررتُ الذهاب إلى البحر، والبحث عن مقهى لا يُغلق أبوابه، مقهى للسهارى والحيارى والسكارى كما يقول والدي.
أخذت جولة مشي أولًا على قدمي، مستمتعًا بالنسيم البارد القادم من البحر، وفي الخلفية صوت هدير الأمواج وضحكات الأطفال وهمسات المحبين في ليل جدة.
كان للمقهى واجهة زجاجية باتجاه البحر، اخترتُ طاولة بجانبها، مواجهةً البحر، وخلفي درج يوصل إلى سطح المقهى حيث الجلسات ممتلئة عن بكرة أبيها.
في محاولتي للقراءة، كان التركيز يتفلّت مني مع دخول كل زبون جديد، فكل من دخل بعدي كان له عطرٌ فوّاح وآسر، يأخذني في رحلةٍ لتوقع اسمه، وتذكر رائحته، وتخمين نوتاته. كانت ليلة عطرية غريبة، فما هذا المقهى الذي له زبائن يتحلون بذوق عطري رفيع، ويتجمعون في ليلة واحدة؟
ضاعت القراءة، والكتابة، والمذاكرة، حيث كنت لا أزال أدرس المواد المنهجية لبرنامج الدكتوراة الذي التحقت به.
حاولت استعادة تركيزي بقرار: إذا ركزت على مذاكرتي، وكانت درجاتي طيبة، فسأشتري مجموعة جديدة من العطور، حتى ولو لم تنفد العطور التي عندي، وقد كنت أملك في ذلك الوقت عطر بلاك من غوتشي، وبلاتينيوم من كوتش، وبقايا من سوفاج ديور.
لم ينجح القرار، ولم أذاكر في تلك الليلة العطرية، لكنني نلت المكافأة قطعًا، فمع تسليم آخر بحث في ماراثون التكاليف خلال الفصل، فتحت متجر كاندي نيش، وطلبت العطور التالية: أوم دي بارفيوم النسخة السابقة من ديور، وناكسوس من زيرجوف، وعود ملكي من شوبارد.
منعطف الزواج
بدأت حكايتي الشخصية مع العطور في متاجر قزاز، حين كان والدي يذهب إليه من حين لآخر لشراء عطر واحد لا يغيره: دكلاريشن نسخة التواليت من كارتيتر. فُتنت من لحظتها بأجواء الأناقة والفخامة التي كللت المتجر، خاصة مع تصميم الكيس الخاص به، ذي اللون الأخضر المميز، والخطوط الذهبية التي تؤطره.
لكني لا أتذكر أنني سبق وأن اقتنيتُ عطرًا في طفولتي، أو مراهقتي. كانت أمي تتكفل بشراء نسخة مقلدة لعطر انفيكتوس من باكو رابان، تأخذها من سوق الكورنيش في البلد، وظلت هذه النسخ المقلدة هي عطري الوحيد من طفولتي وحتى ليال قليلة سبقت زواجي!
الله على زمان تقليد أول، كان المقلدون يقدمون لك صفقة معقولة، عطر مقلد، برائحة طيبة سريعة الذوبان، إلا إذا أكثرت من الرش، لن تزعجك ولن تزعج من حولك، ولن يتذكروك لا برائحة طيبة، ولا سيئة.
اشتريت.
لذا ظللت على هذا العطر، لم أجد دافعًا لتغييره، خاصة أنني لا أحب مشوار سوق الكورنيش هذا، وكانت دخول المولات محصورًا على العوائل والبنات، فلا يمكنني زيارة بوتيكات العطور، والعطر الذي عندي يؤدي الغرض بكل بساطة.
اختفت العطور المقلدة الصادقة، وجاء زمن العطور المقلدة الكاذبة، والعطور المستوحاة، والعطور التي تدعي أنها ليست مستوحاة، ودخلنا في نفق مظلم سنجد في آخره طائفة من معطوبي الأنوف الذين خسروا حاسة الشم تحت ضربات الزيوت متدنية الجودة، والأثير الخانق الذي تصنعه معطرات الجو وهي تنتبت في كل متجر، وفندق، ومنزل.
قُبيل زواجي، وجدت النسخة المقلدة الظريفة من انفيكتوس ترمقني من مكتبي، سلمت عليها سلام مودع، وصارحتها بضرورة التغيير، وتفهمت مشكورة المرحلة التي سأنتقل إليها على طريقة “تبغى عشرين ثلاثين ومعانا غليل؟ لابُد يُباد غليل!”. ذهبت بعدها إلى سوق حراء الدولي، وتوجهتُ إلى محل المصباح، حين كان يضم نخبًا من العطور العالمية، ويقدم لكل مشتر عينات من أي نوع عطر يفضله، قبل أن يقع أسيرًا لعالم العطور المستوحاة.
صارحت البائع أني في ورطة، فزواجي بعد ليلتين أو ثلاث، وأنا لا أملك أي عطر محترم، ولا أعرف أي عطر محترم. فقدم لي أول ما قدم عطر انفيكتوس! كانت الرائحة جميلة وغامرة، لكنني وجدت أنه من الخيانة أن يكون أول عطر أقتنيه هو العطر الحقيقي من العطر المقلد الذي ودعته قبل قليل، لذا طلبتُ من البائع أن يقترح لي عطورًا أخرى.
حينها قدم لي عطر ايروس من فرزاتشي، وسوفاج من ديور، اشتريتهما على الفور، وانتظرت ليلة زواجي بثقة عطرية لا تردد معها.
بعد زواجي مباشرة، كنت ألتقي كل شهر مع بعض الأصدقاء في جلسة أدبية متنوعة، نناقش كل مرة كتابًا أدبيًا من نوع مختلف، سواء كان رواية، أو ديوانًا، أو مسرحيةً، أو دراسةً نقدية.
كانت ليالي حلوة ليتها تعود، مع ياسر بابطين، وابن أخته وائل العمري، وفيصل الشهراني، وربيع العبدلي، وعبدالله مودان.
في ليلة من تلك الليالي، شممتُ على عبدالله مودان رائحة عود جميلة وغير مزعجة، وأنا لا أحب العود، ولا عطور العود، لكن أشعر أن الجمعة لا تكون جمعة من غير رائحته، لذا تجرأت على سؤاله عن عطره، فأخبرني أنه عطر عود ملكي من شوبارد، واقتنيته في اليوم التالي مباشرة، وصار العطر الثابت الوحيد في مجموعتي العطرية المتغيرة.
انقراض المغرد الشامل وعطوره
كنتُ أعرف صديقًا تويتريًا جميلًا اسمه ماجد بريهم العزيزي، من نوع منقرض من الحسابات التويترية، المغرد الشامل، الذي يكتب في السياسة، والفقه، والمباريات، والأدب، واليوميات، وكل شيء. وهو في كل ما يكتب ممتع، ومؤثر، وظريف.
كان ماجد يكتب في بعض الأحيان آراء عن عطور جرّبها، ويختم التغريدة بهاشتاق #رابطة_عشاق_العطور، وهو هاشتاق كان يكتب فيه المهتمون بالعطور وعوالمها، قبل زمن طويل من فكرة المجتمعات الموجودة الآن على تطبيق ايلون مصك.
حين كنت أقرأ تغريدات ماجد العطرية أستغرب من أمرين، من أشكال العطور التي لم تمر علي سابقًا في أي متجر من المتاجر التي أعرفها، ومن النقاش الساخن الذي يدور بين المهتمين حول آراءهم في عطر من هذه العطور، إذ يتحول الأمر من تعبير عن ذوق شخصي، إلى جدال منطقي وعملي صارم.
افتتح ماجد لاحقًا متجرًا الكترونيًا يبيع من خلاله عينات عطور “النيش”، وهو تصنيف أعرفه للمرة الأولى، وكان يذهب إلى الدول الأوروبية لاقتناء هذا النوع من العطور، فلم تكن المتاجر في تلك السنوات توفر من هذا النوع من العطور إلا عطرًا أو عطرين من كل علامة تجارية.
فطلبت منه أن يختار لي مجموعة من العينات على ذوقه الخاص، فاستجاب لطلبي وبعث لي مجموعة من هذه العينات بسعر منخفض، يُشبه أن يكون بلا مقابل تقريبًا.
أوقعني ماجد في شر أعمالي، أو أعماله، إذ فتح لي مغارة علي بابا التي لا خروج منها، روائح خلابة، فاتنة، أخّاذة، بديعة، ساحرة، شيء لا يُصدق.
كانت أهم العينات التي غمرتني فتنة شذاها من دار زيرجوف الايطالية، 40 عقدة، ومور ذان ووردز، وناكسوس، والكسندريا2. كتبت عنها تغريدة طار نبأها في هاشتاق عشاق العطور، وتتابعت الطلبات على العطور التي كتبت عنها في متجر ماجد، حتى أنه صار يبيعها في مجموعة واحدة باسم عطور حسان!
أغلق ماجد متجر عطوره في ظروف غامضة، وانسحب من سائر منصات التواصل الاجتماعي، وانتهت أسطورة المغرد الشامل.
هل من صلح ممكن مع العطور المحلية؟
تعرفت على أشهر دار محلية للعطور في وقت مبكر جدًا، حين كان لا يبيع إلا عطرين أو ثلاث، أعلن عنها محمد العرفج على حسابه في سناب شات، ومحمد لمن لا يعرفه رفيع الذائقة، له عين تلتقط الجمال وتصنعه، ومحتواه على سناب شات آية جمالية يومية تبارك الرحمن.
طلبت العطر، ولست أدري الآن، هل العطر أعجبني بالفعل، أو أنني تأثرت بذوق محمد، أو أن الوصف اللغوي للعطور أثّر على حكمي على هذا العطر، فقد كان المتجر يكتب لكل عطر وصفًا مطولًا جدًا يُشبه أن يكون قصة قصيرة، يحول العطر إلى نص سردي ممتع، وهو الأمر الذي اختفى الآن، وصار وصف كل عطر من عطوره شديد الاختصار.
ما أذكره أن العطر جميل، جدًا، وجربت بعده عطرًا آخر، وأعجبني كذلك، ثم بعد فترة طويلة طلبت عطرًا ثالثًا، ولم يعجبني، وتوقفت عن الشراء منهم، ثم جربت العطرين الأولين في بعض معارض العطور وتعجبت من نفوري من الرائحتين، هناك رائحة قوية جدًا، ومزعجة، تلهب أعصاب الأنف، وهو ما صرت أشعر به مع عطور العلامات المحلية للأسف، تركز على المبيعات الضخمة، وتصدر عددًا كبيرًا من العطور يُنسي بعضها بعضًا، ذات روائح مستهلكة، ولا تعجبني، وتزعجني.
وصدقني هذا ليس موقفًا من كل ما تنتجه الدور المحلية، لكنه يعمها، ولا يتعلق الأمر بنوع من الترفع على الإنتاج المحلي، أو الاستخفاف بذائقة من تعجبه عطور هذه العلامات، فالعطور في رأيي مسألة شخصية جدًا، وإلا فكيف نجحت هذه العلامات ووجدت لها عملاء دائمين يقفون في طوابير طويلة عند أجنحة هذه العلامات في معارض العطور السنوية؟
في بعض الأحيان أجد عند بعض هذه الدور عروضًا معقولة، فقد أعجبني مثلًا عطر فتّان الرجالي من الرصاصي، وهو على ما أظن عطر بديل من تري دي هرميس. لماذا أعده عرضًا معقولًا؟ لأن سعر العطر 60 ريالًا، في 50 مل فقط، أستخدمه للاستمتاع الشخصي برشة أو رشتين.
لا أحب التورط في العطور الضخمة التي تسوّق عبوّاتها العلامات المحلية، عطر 200 مل ماذا أفعل به؟ أحب الأحجام بين 30 مل و 100 مل في أقصى حد. فحتى لو لم أقع في غرام العطر، فسيعجبني أن أستعمله للتغيير من حين لآخر، لكني أحب أن يتنهي في وقت معقول حتى أستبدله بعطر آخر، فلست من أصحاب المكتبات العطرية الضخمة، تكفي مكتبتي الكتبية يعني.
لكن حسابًا لفتني لعاشق من عشاق العطور من السعودية في الرابطة المذكورة أعلاه، اسمه فيصل، ما يعجبني فيه أن له رأي واضح لا يُجامل، ويبحث دائمًا عن العطور المبتكرة حتى ولو لم تكن روائحها مناسبة للاستعمال اليومي. قد يكون غيره من المغردين العطريين لهم فضل على تعرفي على بعض العطور أكثر منه، لكن فيصل مختلف تمامًا.
رائد من روّاد العطور، فهو يجرّب دائمًا العطور فور صدورها، وقبل نزولها في الأسواق في بعض الأحيان، إذ له مصادره الخاصة، وعلاقات عطرية غامضة.
ذات يوم تفاجأت من تصويره في مصنع عطور دار أمواج العمانية، فقد أوقعه غرامه إلى دراسة كيمياء العطور، والتعرّف على العطّارين، وتجربة خلط الزيوت العطرية.
ثم فاجأ الجميع بإطلاق داره الخاصة، سيلكوث، عطور مبتكرة جدًا، ذات جودة عالية، وأداء معقول.
تابعت إصداره أول عطرين، لكني لم أتشجع لاقتنائهما، فالمكونات العطرية غريبة، ويصعب تخيل روائحها. ثم أطلق إصدارًا محدودًا لعطر مكونه الرئيسي جذور السوسن، وكدت أن أطلبه لولا سعره المرتفع نسبيًا. ثم أطلق عطرًا صيفيًا اسمه ميستك شور، وعلى الرغم من تصنيفه عطرًا بحريًا، حتى أنني ظننت أنه سيكون عطرًا مناسبًا لجار للبحر مثلي، إلا أنه ذو صبغة طحلبية جميلة، يشعرني بأجواء الغابات المطيرة أكثر من النوتات البحرية.
هناك أيضًا دور محلية أنوي تجربتها، مثل عطور نواف سعد، ويفوح، وغيرهما.
شمشمةٌ عطريّة
أنا من هواة “جولات الشمشمة”، أي التجول في محلات العطور لغرض تجربة عطور جديدة، وهي الممارسة التي لا يمكنني القيام بها في المتاجر الالكترونية طبعًا، وبصراحة فكرة شراء العينات لم أستسغها حتى الآن، ولذلك لا مفرّ من زيارة المحلات، أقول لا مفرّ لأنّني رغم حبي النظري لهذه الزيارات، إلا أن التجربة بائسة.
لا أدري أين المشكلة في أن أجرب العطور بنفسي، ضع القواعد التي تريد، وأكد أن أي تلف سأكون مسؤلًا عنه، وتعلّم من ايكيا كيف تترك العميل وشأنه إلا في حال احتياجه لطلب ما.
فالموظف، أو الموظفة، يطاردك مهما حاولت الهرب منه، ويصر على أن يرش بنفسه على ورقة تجربة العطر، ثم يمطرك بوابل من الأسئلة والاقتراحات العطرية، والتي في أكثر الأحيان لا تناسبك، ولا أدري عن عموم الناس، لكني شخصيًا أستحي أن أقول بأن العطر الذي بالغ في مدحه لم يُعجبني، لذا غالبًا ما أغادر دون أن أكمل جولتي العطرية.
أستنثي من ذلك أحد موظفي محلات لور، كان يعمل في فرع مجمع العرب، ثم انتقل إلى فرع الريدسي، سألني عن أجمل عطرين في مفضلاتي العطرية، ثم صار يقترح علي بعض العطور دون أن يمدحها، والغريب أنه التقط ذوقي سريعًا، وصار يعرّفني كل مرة على عطر مختلف، وسريعًا ما أضمه إلى قائمة الشراء القادمة.
لكن تظل الأسعار هي كل شيء، لا يمكن أن يكون السعر في المتجر الالكتروني منخفضًا عن الوكيل بـ ٥٠٠ ريال وأكثر، ثم تتوقع أن يشتري الناس من الوكيل، فخدعة أن عطور جميع المتاجر الالكترونية مقلدة ما عاد تنطلي على المستهلكين، وصار للناس طرقهم الخاصة في التأكد من مصادر المتاجر وموثوقيتها.
ما توفره هذه الفروع الآن هي فرصة تجربة العطور، والتجول بين جديدها من حين لآخر، وممارسة “الشمشمة العطرية” ترويحًا عن النفس، وتلذذًا بواحدة من أجمل لذائذ الحياة، والتي أرجو من الله سبحانه أن يحفظها لي في خير وعافية.
الجميل أن العطور كالكتب، لا نهاية لها، فما تزال أمامي مئات الدور التي لم أجرب عطورها، والتي تنتظرُ فراغًا ما في مجموعتي التي أحب ألا تتجاوز خمسة عطور كل مرّة، حتى يأتي دورها، أو دوري معها ربما.
اكتشاف المزيد من دفاتر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالة براقة
إعجابLiked by 1 person
تسلم 🙏🏼
إعجابإعجاب
اممممممم 🥹❤️
ما اسمح لك تقول عني منقرض
إعجابإعجاب
ارحب ملاييين 😍😍😍😍
إعجابإعجاب