الصداقة السوشلية وأسئلة نيل بوستمان السبعة

ذات مرة، في واحدة من جلسات الهبد الفكري، تلك التي تُشتم فيها الحداثة لفعالها وفعال غيرها، وهي المسكينة المأكولة المذمومة، قال أحد أصدقائي حينها بأن الحداثة استبدلت الصداقة بعلاقات القرابة، فرددت عليه دون أن يطرف رمشي بقول عبد يغوث الحارثي:

فيا راحلًا إمّا عرضتَ فبلّغن

ندامايَ من نجران ألّا تلاقيا

أبا كَرِبٍ والأيهمين كليهما

وقيسًا بأعلى حضرموت اليمانيا

لم يفهم صديقي مراد الشاعر، وكنتُ في يأسٍ منه، إذ لذم الحداثة سكرةٌ تُعمي عن التفكير، فتركته وأنا أتأمل في لذيذ فعل عبد يغوث، حين كانت روحه تخرج من جسده وهو يلقي قصيدته التي يرثي فيها نفسه، راجيًا ممن يسمعه أن يبلغ أصحابه وداعه الأخير، أبو كرب، والأيهمان، وقيس، وهو الذي هجا قومه في نفس القصيدة، قبل الحداثة بوقت طويل جدًا، في تلك المرحلة الجاهلية من تاريخ العرب.

تبدو الصداقة شكل العلاقة الأمثل في كل شيء، في المهن، وفي الجيوش، وفي القرابات، وفي العلاقات الأبوية، وبين الأزواج مثلما قالت زوجتي حين سُئلت عن أهم أمر يجب توفره للزواج الناجح فقالت: الصداقة. إنها مثال الإنسان، منتهى ما ينبغي أن يكون عليه، وغاية ما يحلم به، كما يقول الكاتب الأمريكي دوغلاس بايغلز: «الصديق هو واحد من أجمل الأشياء التي يمكنك الحصول عليها، وواحد من أفضل الأشياء التي يُمكنك أن تكونها».

ولا أريد أن أذهب بعيدًا في تفكيري، لكنني كثيرًا ما أستعيد أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت صلته الأوثق بالناس تُسمّى: الصحبة. والصحبة منزلة أرفع من الصداقة، لكنها تقوم على أصلها، وتشترك معها في ذلك الخيط الإنساني العميق الذي يجمع بين الأفراد.

ومع السنوات، تقلّ قدرة المرء على صنع الصداقات، شيء ما في الحياة يصبح أثقل، وأكثر صمتًا، وأقلّ استعدادًا للانفتاح. لكن منصّات التواصل تهبنا الفرصة بطريقتها، أن يتعرّف إنسانٌ على آخر بلا زمن، ولا مكان، ولا عمر. وهنا يتجلى تعريف إيزابيل الليندي للصداقة: «هي التي تتغلب على الوقت، والمسافة، والصمت».

وقد حظيت في الأسابيع القليلة الماضية بنشوء صداقة فكرية سوشلية، فاجأني ما فيها من الانسجام والفهم، والتعبير، والانطلاق، وعما فيها من تماثلٍ معقول يسمح بعقد الصداقة، وتباين يدفع لديمومتها، ويحفز النقاش والتفكير والحوار، إنها خير انطباق لما وصفه بلال علاء في كتابه عم نتحدث حين نتحدث عن الصداقة: «الحد الكافي من المعرفة لتجاوز الموضوعات المبتذلة».

تحدّثنا عن الوحدة، وعن العزلة، وعن التقنية، وعن القراءة، وعن الأكاديميا العربية، وعن الكتابة، وعن الهمّ الفكري اليومي. ومن بين كل ذلك، أشار الصديق عليّ بمحاضرة لنيل بوستمان حول مساءلة التقنية، وبوستمان كاتب وأكاديمي أمريكي متخصص في التربية والتقنية، لديه عدة كتب عن التقنية والتعليم، لم يُترجم منها غير كتاب واحد اسمه “نسلّي أنفسنا حتى الموت“.

فتحتُ المحاضرة في تطبيق يوتيوب عبر التلفاز، وجلستُ في صالة البيت أستمع وأقرأ الترجمة التلقائية التي أدهشتني، ومرّت ساعة وأكثر كنتُ خلالها في حالةٍ من التفكير المتتابع الجميل؛ ذلك النوع من التفكير الذي يطرق الذهن طرقًا هادئًا، ويترك فيه أثرًا لا يمّحي.

لست أدري الآن ما الذي دفع الصديق لاقتراح هذه المحاضرة، فقد تحدثنا عن أشياء كثيرة أوسع من التقنية ونقدها، مثل حالة الأكاديميا العربية، ودور المثقف، والقراءة، والكتابة، وغيرها، ولذا فقد وجدتُ في هذه المحاضرة جميع ما أتوق إليه من جميلات الحياة، كأن الصديق قد استخلص من خيوط حديثنا المتشابكة جوهرَه وقدّمه لي رابطَ يوتيوب.

كان بوستمان يظهر ككائن من زمن آخر؛ بطيءٌ في التفكير، بطيءٌ في التحليل، لكن رويّته هذه كانت شيذًا خلّابًا، كأني أشاهد كائنًا منقرضًا نسمع عنه في الحكايات والأساطير، ونرى أحافيره في المتاحف والأفلام الوثائقية.

ولديه تلك الكاريزما التي أتمنى أن يمتلكها كل أكاديمي يدرّس للناس؛ حضور هادئ، غير متكلف، ولا متعجرف، ولا مغموس في التنظير. حضور مبني على فهم عميق، طويل، ومتروٍّ. قدرة على تبسيط الأفكار، وعلى ربطها بحياة الناس اليومية. لغة جميلة غير متحذلقة ومباشرة ولا تنقصها الظرافة، ونقد شجاع من غير ابتذال.

خرجتُ من المحاضرة وأنا أشعر أنني وجدتُ ضالّتي، ووجدتُ صداقتي

ولئن كانت الحياة تمنحنا اليوم إمكان عقد الصداقة عن بُعد، عبر شاشاتٍ وحروفٍ وإشعارات، فإن ما يفوتها دائمًا هو الشرط الذي لا يستبدل: أن نأكل معًا.

كما يقول الروائي الأمريكي جوناثان سافران فوير: «إن تناول الطعام مع الأصدقاء هو الشيء الوحيد الذي يوطّد ويقوّي علاقة الصداقة، وليس هناك مثيلٌ له، حتى وإن كانت المحادثة، أو المصافحة، أو حتى العناق».

ولعل هذا السبب يكفي لأن نتمسك بكل صداقة تُمنح لنا، وأن نعاملها بما تستحق، وأن نترك لها فرصة أن تكبر -ببطء- مثلما يكبر كل ما هو ثمين.

سأترككم مع الأسئلة السبعة التي يقترح بوستمان أن تُطرح على كل تقنية جديدة، وهي مع بعض التعديلات تصلح لأن تُطرح على أفكار كثيرة غير التقنية، وعلى كل موجة تغيير تقريبًا:

  • ما هي المشكلة التي جاءت هذه التقنية لحلها؟
  • مشكلة من هي؟
  • ما هي المشاكل الجديدة التي يمكن أن تنشأ لأنا حللنا هذه المشكلة؟
  • من هم الأشخاص وما هي المؤسسات التي ستتضرر من هذه التقنية الجديدة؟
  • ما هي التغيرات اللغوية التي تفرضها هذه التقنية الجديدة؟ ما الذي نكسبه وما الذي نخسره من هذه التغيرات؟
  • أي نوع من الأشخاص والسياسات سيكتسب قوة اقتصادية وسياسية خاصة بفضل هذه التقنيات الجديدة؟
  • ما هي الاستخدامات البديلة التي يمكن تُستغل بها هذه التقنية؟


اكتشاف المزيد من دفاتر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

6 آراء على “الصداقة السوشلية وأسئلة نيل بوستمان السبعة

  1. أُقدّر أنك تكتب بتلقائية مشاعرك؛ لذا تستقر بتلقائيتها في شعور القارئ لكنك بخيل في الكتابة يا حسان.

    والله يكثر الأحباب والأصدقاء الذين نتهابد ونتشاكس معهم في معابر حيواتنا.

    Liked by 1 person

  2. “لي صديق.. كلما رفضني العالم ورفضتني الأيام، حتى حينما أرفضني أنا أركض إليه

    ‏فيُشعرني بأني القبول الوحيد فى حياته ✨

    ‏لي صديق..  

    ‏-يُصالحني كل ليله على العالم وعلى نفسي

    ‏ولم يسأمْ ,حتى حينما سئمت أنا”

    🤍

     تدوينة رائعة يا حسان! بإنتظار القادم 🌟

    Liked by 1 person

أضف تعليق