البستانيّ في مكتبته

“جالسٌ في مكتبتي في الليل، أرقبُ في هالاتِ الضوء العوالق المتصلّبة، تتناثرُ على الصفحات وعلى جلدي، تتهاوى باستمرار طبقة إثر طبقة ميتة في محاولة عقيمة وبإصرار. يطيبُ لي أن أتخيل، في اليوم الأخير من حياتي، كيف نهلك أنا ومكتبتي معًا، حتى إذا لم يعد لي وجود فإني سأبقى مع مكتبتي”.

ألبرتو مانگويل.

أحنّ إلى أيام تويتر القديمة، حين كان لكل تغريدة قيمتها. بالكاد يصل عدد من أتابعهم إلى الرقم 100، أقرأ جميع تغريداتهم بحرص، وأتحدث عنها مع أصدقائي بحفاوة. حين كانت الوسوم العربية لا تعمل، ولا وجود للثريدات. كان الناس أقل ثرثرةً، وكان تويتر يؤثر في حياتي.

أتذكر الآن تلك اللحظة، حين غرّد نواف الرشيد عن كتاب اسمه “المكتبة في الليل”، تحدّث عن الكتاب، وصاحبه، ووضع عددًا من الاقتباسات منه، سالَ لها لُعابي، ولعاب القرّاء، وتسابقنا لاقتنائه من معرض الرياض، والذي كنتُ أزوره للمرة الأولى ذلك الوقت، وللأسف لم أكرر زيارتي له حتى الآن.

ما لم يُصارحنا به نواف، أن الاقتباسات التي وضعها هي حسنات الكتاب الوحيدة، والتي لا يفضلها غير عنوانه المُداعب لخيالات القرّاء، أما بقية الكتاب، فقد كان عبارة عن إحالات لكتب كثيرة غير متداولة في مجالانا العربي، أو جمل مفككة منعتني من تذوقها، وهو ما خيّب ظني كثيرًا في ألبرتو مانگويل وكتبه الأخرى.

لكني عُدت مرةً أخرى إلى كتب مانگويل، تُشدني إليه عوالم القراءة والكتب والمكتبات، فلا أجمل من قراءة الكتب، إلا القراءة عنها، وذلك تحديدًا ما أحبّه في مراجعات الكتب، والكتب التي تجمعها، وهو المجال الذي أنوي الكتابة فيه كثيرًا.

يقول مانگويل: “المكتبة الخاصة، بخلاف العامة، تُقدّم ميزة السماح باتباع ترتيب نزوي وشخصي جدًا”. ولعلّ كل قارئ جرّب أول مرة أن يُرتب مكتبته على طريقة المكتبات العامة، حسب العلوم والفنون أولًا، ثم حسب تواريخ الكتب داخل كل علم. وكذلك فعلت، حتى تكاثر القراء داخل تويتر والانستگرام، فعلموني التصنيف بدور النشر، وبالمؤلفين، وبألوان الأغلفة، وبأحجامها، ولعل أكثر تصنيف أربكني هو تقسيم كتبي كلها إلى ثلاثة أصناف، كتب قرأتها، وكتب لم أقرأها، وكتب مفضلة، إذ لم يدم هذا التقسيم في حياة مكتبتي إلا لليلتين أو ثلاث على ما أتذكر.

أُحب إعادة ترتيب مكتبتي كل فترة، يستفزني نظامها إلى تغييره، أتعرف حينها على مكتبتي من جديد، أقفُ على كتاب أضعته، أو أقرأ فصلًا من كتاب مؤجّل، أو أُعيد قراءة مقطع أُحبّه، وهو ما يُطيل من زمن الترتيب، الذي قد يصل إلى شهر أو أكثر، مع أن مكتبتي صغيرة الحجم نسبيًا.

ولا يمضي بعض الوقت بعد انتهاء الترتيب، حتى أكتشف ترتيبًا أفضل، فكما يقول مانگويل:

“لم يكن واضحًا لي إلا بعد وقت طويل، بأن الترتيب يولّد الترتيب. ما إن يُصبح التصنيف محققًا حتى يؤدي إلى تصنيف آخر، حيث ليس هناك منهج للفهرسة -سواء على الرف أو على الورق- بوسعه أن يكون مثاليًا أبدًا. إذا ما قررت الترتيب على عدد من الموضوعات، فإن كل واحد من هذه الموضوعات سيطلب تصنيفًا داخل تصنيفه. عند نقطع معينة من الترتيب، بدافع الإعياء، والضجر أو الإحباط، فإني سأوقف هذه المتوالية الهندسية. لكن احتمالية الاستمرار ستضل دائمًا قائمة. ما من أصناف نهائية في المكتبة”.

اكتسبتُ عادة الترتيب الدوري من والدي، كانت له في طفولتي مكتبة كبيرة، مليئة بالمراجع والمصادر، وبها كل الكتب التراثية الأساسية، فضلًا عن الكتب الحديثة والموسوعات التي كان مفتونًا بها، وكان يدعونا كل فترة لمشاركته ترتيب مكتبته وتنظيفها، وحين تملّ والدتي وأخي سلمان في منتصف المهمة، أبقى مواصلًا العمل معه حتى اللحظة الأخيرة، مستغلًا الفرصة للاطلاع على كتب لا تناسب عمري، في غفلة منه أو تغافل.

ولكن زمن ترتيب المكتبة عند والدي لا يُمكن أن يتجاوز ليلةً واحدةً مهما كلّف الأمر، وكان في نهايتها يُخرج عددًا من الكتب التي يُفضل أن يمررها لقارئ آخر من أصدقائه أو طلابه، أو حتى لبعض طلبة العلم خارج السعودية. أحببتُ هذه الفكرة، ومارستها أحيانًا بهوس غريب، فأكثر الأحيان أتقمص دور البستاني في حديقته، أُشذّب مكتبتي من زيادات هنا وهناك، تتمثل عادة في كُتب خيّبتني، أو أخرى لن أعود لقراءتها، أو لكتب لم أقرأها، ولكنها فقدت عمرها الافتراضي وجاء بعدها ما يفوقها. وفي بعض المرات أتقمص دور سفّاح، أفتعل مشكلةً مع مكتبتي لا مبرر لها، ثم أعاقبها بإقصاء رفوف كاملة عن بكرة أبيها، فتعاقبني بالندم لاحقًا حين أتذكر كتابًا أحتاجه كان يرتاح على رفوف مكتبتي في لحظة ما، وهو اليوم يرقد بعيدًا عني بُعد المشرقين.

أكسبتني هذه العادة صداقة مكتبتي، فأنا أعرفها حقّ المعرفة، وقرأت أكثرها، ولا يمكن أن أضع كتابًا جديدًا على الرف قبل أن أقرأ الفهرس والمقدمة والخاتمة وصفحات من فصل أختاره بشكل عشوائي. وحين كانت مكتبات أصدقائي تكبرُ يومًا بعد يوم، كانت مكتبتي تحتفظ برشاقتها، ولذا لم تتجاوز حتى هذه اللحظة ستة دواليب، بالإضافة إلى بضعة كتب ملقاة على الأرض لا مكان لها، وعلى كل حال فأنا لا أنوي أن تتجاوز مكتبتي عشرة دواليب مهما كانت الظروف.

وهذا لا يعني أني أُزايد على خيارات أصدقائي، فأنا أُشجعهم على مواصلة اقتناء الكتب، ومواصلة شراء دواليب جديدة، وأهوّن عليهم تمدد مكتباتهم إلى غرف أخرى في منازلهم، ذلك أني أتعامل مع مكتباتهم كفروع لمكتبتي الشخصية، أستعير منها ما يحلو لي، وأتردد في شراء كتاب لأن نسخة متوفرة منه في مكتبة صديق ما. ولذا فإن مكتبتي تخلو من المصادر والمراجع ذات العدد الكبير من المجلدات، باستثناء نسخة مصورة من تفسير ابن عاشور بالطبعة القديمة، ومجلدة بطريقة متقنة، أهدانيها والدي قبل عام تقريبًا، ونسخة من سير أعلام النبلاء للذهبي، فازت بها زوجتي أثناء مشاركتها رحلة القراءة في مبادرة قراء الجرد.

حين دعاني صديقي عبيد الظاهري لترتيب مكتبته وافقت فورًا. كانت مكتبة عبيد سرًا كبيرًا، فقد غصّت مساحتها بالدواليب المعترضة، والتي تُعيق اطلاعي على محتوياتها، وهو ما يجعلني أجهل ما بها من العناوين، فأفقد القدرة على تحديد الكتب التي أنوي اقتناءها، إذ أخشى من توفرها في مكتبته، فهذه إذن فرصة لا تعوض لاكتشاف مكتبته والتأكد من محتوياتها.

انتقل عبيد إلى شقة جديدة، وهو أصعب قرار على أصحاب المكتبات الكبيرة لأسباب لا تخفى، وصلت إلى مكتبته بعد أن انتهى من تركيب الدواليب وتثبيت الرفوف، ووجدت في منتصف الغرفة كراتين الكتب المتراكمة فوق بعضها البعض.

يقول ألبرتو مانگويل: إنّ “عملية إخراج الكتب من صناديقها هي نشاط كشفي”، ورغم أني لم ألتحق بالنشاط الكشفي في الماضي، إلا أني أحسست بشعور الكشّافة، فالتعب والإرهاق من ثقل الكراتين، والجفاف الذي تعاني اليدان منه بسبب التراب المتراكم على الكتب وصناديقها، يعوضه لذة فتح الكرتون والاستمتاع بالمفاجأة التي تُقابلك كل مرة، ولولا الاستعجال الذي حاول عبيد مداراته عني، للبثت في ترتيب مكتبته ثلاثة أشهر على الأقل.

تُعاني مكتبة صديقي من توسّع مرَضي، وبها كتب لا أدري سبب شرائه لها، وواثقٌ أنه لم يتصفحها يومًا ما، ولذا لا بد له من تقمص روح البستاني، والاستمتاع بتشذيب حديقته لتحافظ على جمالها، وعلى وظيفتها، وهو ما يصعب علي مشاركته فيه، فأنا أفضل أن تمتد مكتبة أصدقائي إلى اللانهائية وما بعدها. ومع ذلك، فمكتبة عبيد من أميز المكتبات التي دخلتها، فهي تتضمن الكتب الأساسية في أغلب الفنون، مع تزويد مستمر في مجالات اهتماماته. ولعلم أصول الفقه المساحة الأكبر من بين العلوم الأخرى بحكم التخصص، فكتب الأصول تغطي الواجهة الأساسية التي تبدو للداخل إليها (كتبَ مانگويل: “حين أدخل مكتبةً، أفاجأ دائمًا بالطريقة التي يُفرض بها على القارئ رؤية معينة لأصنافها وفئاتها”، ولكل منا مهاراته في تحديد الكتب التي تحدّد انطباعات الزوّار!) ومع أن الواجهة تضم مجموعة واسعةً من المراجع والمصادر والمتون والدراسات المهمة، إلا أنها تحتوي كذلك على عدد كبير من الرسائل الجامعية كبيرة الحجم قليلة النفع، وقد أسرّ لي أنه ينوي إحداث مجزرة كبرى لهذا النوع من الكتب بالخصوص داخل مكتبته، وأنا أترقب ذلك اليوم بكل تأكيد


اكتشاف المزيد من دفاتر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

11 رأي على “البستانيّ في مكتبته

  1. تدوينة ممتعة لمستني لأني رتبت مكتبتي من وقت قريب فجميل جدا تفكير البستاني

    أظنني سأحاول أيضًا أن أكون بستانية

    إعجاب

  2. بوركت أ.حسان وبارك الله في قلمكم ونفع بكم ،، وقل للدكتور عبيد لا يستعجل بالمجزرة فنحن ننتظر مكتبة نديم .. والغث والسمين في مكتبات عامة لا بأس به إذ أن الغث يكون للناقدين والسمين للمنتفعين ..

    Liked by 1 person

اترك رداً على شيم إلغاء الرد