فيم أفكر حين أفكر في التدوين وليفربول ومحمد صلاح؟

عندما أفكر في أجمل سنوات الدراسة، فأظن أن المرحلة المتوسطة كانت أجملها على الإطلاق، لم نكن أطفالًا، والدراسة سهلة، ومجمع الأمير سلطان حيث درست كان مكان رائعًا ومختلفًا.

أدخل المجمع على مختلف قاعات الدراسة السبورات الالكترونية، وأجهزة حاسوب حديثة الإصدار، وشبكة انترنت سريعة بمقاييس تلك الأيام. كان المقصد أن تطور هذه التقنيات من قدرتنا على التعلم، وتمنح المعلمين أدوات مختلفة لإثراء الحصص الدراسية، ولكن كان لنا استخدام مختلف لها.

في الفسحة، أو الحصص التي يغيب عنها المعلمون، كان بعض الطلاب يتسابقون، وبالدور، للعب لعبة ترافيان، ولكن الأغلب كان يفضل حينها أن نعيد مرارًا وتكرارًا أهداف مبارايات الأسبوع، ونزجي الوقت الفارغ في هجاء الفرق التي نشجعها.

كنا نشاهد الأهداف على موقع نسيت اسمه الآن، كان موقعًا منظمًا بطريقة سهلة، ويستعرض لك خيارات مختلفة لمشاهدة الأهداف والملخصات حسب البطولات والأندية والتاريخ، لم يكن اليوتيوب قد وُلد حينها، وكانت المواقع قليلة ومحدودة، وتجربة تصفحها رائعة لا تشوشها نوافذ الإعلانات التي لا يُمكن إغلاقها، ويا ليت أحدهم يكتب تاريخنا الانترنتي.

كان أيمن أبو راس أحد أروع أصدقائي، على النقيض مني تمامًا في كل شيء، رغم اشتراكنا في أمر واحد، وهو رغبتنا العارمة في مناقشة كل شيء.

كان رجلًا متحمسًا دائمًا، ومستعدًا للصراخ والشتم واللعن (اللعن بالذات كان لزمته الكلامية الأثيرة بوصفه غامديًا أصيلًا)، تنتفخ أوداجه حينها، وهما الشريانان الكبيران الممتدان على جانبي الرقبة، ويكتسي وجهه الأبيض بحمرة الغضب، وينعقد حاجباه الدقيقان في أعلى رأسه، بينما تنتفض شفتاه وهما تقذفان بالكلمات في وجهي غالبًا، وفي وجوه الآخرين.

شجّع أيمن نادي تشيلسي في أيامه الرائعة، وحضر دائمًا إلى المدرسة بقميص تشيلسي ذي اللون الأزرق الشتوي المتناسق مع بياض بشرته، وكان يكره نادي ليفربول، لا أدري لم، فقد كان ليفربول في تلك الأيام ناديًا خاملًا، يعيش على تاريخ قديم لم ندركه، ونظرًا لموقفي المتناقض دائمًا من أيمن، فقد اخترتُ تشجيع هذا النادي البائس، بقميصه الأحمر الفاتن، وجمهوره المجنون، وتاريخه المثير.

بمرور الوقت وجدتُ أني أحب تشجيع هذه الأندية، التي تفعل المستحيل وتفوز بالبطولات ضمن ظروف استثنائية ونادرة، تُبقيك على توتر دائم حتى اللحظات الأخيرة للموسم، وتعيش معها قصصًا وحكايات ألذّ وأمتع من نيل البطولات والفوز بالمباريات.

كانت أجمل أيامي الليفربولية حين انضم المدرب الألماني يورغن كلوب واللاعب المصري محمد صلاح إلى الفريق، وبدأت حقبة ليفربولية مختلفة، لم تكن متخمة بالبطولات، ولكنها حقبة هيمنة مرعبة لكل الفرق في أوروبا.

في السنوات الأخيرة بدا أن محمد صلاح يلعب بنصف طاقته، تقلصت مرونته مع تقدمه في العمر، وباتت مراوغاته السينمائية أقل عددًا، ولكنه رغم كل شيء رجل المباريات وصانع الفرق في كل مباراة.

حين تسأل أي مشجع لليفربول، سيقول لك بأن موقفه من محمد صلاح متناقض بعض الشيء، فهو لاعب غائب لا يكاد يرى في أكثر دقائق المباراة، لكنه في لحظة واحدة يصنع التأثير.

في هذه الأيام، نشرت قناة ليفربول على اليوتيوب لقاءًا رائعًا جمع محمد صلاح الذي جدد مظهره بقصة شعر أكسبته النضج اللازم، والحارس أليسون بيكر بعد أن حلق ذقنه التي كانت تمنحه شكل فارس صليبي من القرون الوسطى، والظهير الأيسر أندرو روبرتسون بلهجته الاستكلندية الغليظة.

سألت المذيعة صلاح عما إذا كانت هناك لحظات في مسيرته احتاج فيها إلى إعادة ضبط نفسه، فكانت إجابته الرائعة تستند إلى قدرته في طرح السؤال الصحيح.

قال محمد بأنه في أول سنة له في ليفربول سأل المدرب المخضرم أرسين فينغر عن الفرق بين اللاعب الجيد واللاعب العظيم، فقال له فينغر: “أعتقد أن اللاعب العظيم هو الذي يركز دائمًا على المباراة حتى ولو لم يمتلك الزخم الكامل، يُبقي تركيزه على المباراة حتى صافرة النهاية”.

ثم علق صلاح على هذه النصيحة بكلام أبان فيه عن وعيه بتغير وضعه بمرور السنوات، ولكن مع المحافظة على تأثيره في تسجيله للأهداف الفارقة، وصناعة الفرص الحاسمة، فقال:

“أعلم أن هناك بعض المباريات التي لا أتمتع فيها بالزخم اللازم، ولكني أركز دائمًا على المباراة ولا ألتفت لهذا الشعور، وأحاول أن أنهي المباراة بالشكل المثالي.

لذلك لا أمانع بكوني لا ألعب جيدًا اليوم، لكني دائمًا أجدُ اللحظة! لست جيدًا دائمًا في المباريات، لكني أركز على إيجاد طريقة لتغيير نتيجة المباراة لصالحنا.

بعض اللاعبين لا يقبلون الشعور بفقدان الزخم، ويستمرون في محاربته، وأعتقد أن هذا خطأ، إذا ما تقبلته وأعدت التفكير فيه بطريقة أخرى ستكتشف أنه لا بأس به، فالمهم هو البقاء في المباراة ذهنيًا وإحداث الفارق”.

وصلتني رسالة على جوالي أثناء مشاهدة اللقاء، عبارة عن إيصال تجديد اشتراكي في المدونة، وانتبهت أني لم أنشر فيها غير تدوينة واحدة قبل سنتين وسبعة أشهر، وصرتُ أفكّر في الكتابة من خلال رؤية محمد صلاح.

أفتقد التدوين، لم أتوقف عن الكتابة طوال هذه الفترة، كتبتُ خلالها رسالتي للماجستير، وأبحاث السنة المنهجية في الدكتوراة، ومئات النصوص لمشاريع نديم المختلفة؛ ولكنها جميعًا لا تقارب لذة التدوين الشخصي ومتعته.

قد يكون من المبالغة لبعضكم أن أربط بين محمد صلاح وليفربول والكتابة، لكني أتابع في ذلك سايمون كريتشلي، أستاذ الفلسفة البريطانية، ومؤلف الكتاب الرائع فيم نفكر حين نفكر في كرة القدم؟

في كتابه هذا الذي صدر عن دار مدارات مترجمًا إلى العربية عام 2022م، يقوم سايمون بقراءة كرة القدم من خلال المفاهيم الفلسفية المختلفة، يحاول الكتاب كما يقول أن “يقترب ويقترب، ما أمكنه ذلك، من التجربة كما هي، من قلبها ونسيجها ووجودها، وأن يُتيح للغة ترجيع صدى هذه التجربة بطريقة قد تُتيح لنا رؤيتها في ضوء جديد، ومن منظور مختلف”.

أثناء قراءتي للكتاب لم تفارقني المقارنة الدائمة بين وصفه لكرة القدم وما أحس به من شعور تجاه الكتابة، مثلما يرى في كرة القدم آيات من الجمال، “جمال اللاعبين، جمال البساط الأخضر الفيّاض الذي يكسو عشب أرضيّة الملعب متقاطعًا مع الخطوط الهندسيّة المحدّدة في حُلّتها البيضاء، جمال الأشكال التي تموج بالحركة الدائمة، جمال تحركات اللاعبين في خطوط مترابطة ومتشابكة …”، ويستمر في تعدادها بينما أفكر في جمال الكلمات، وجمال تركيب الجمل بواسطتها، جمال علامات الترقيم والإعراب، وجمال الأحرف السوداء التي تتابع على الصفحة البيضاء أمامي في الوورد الآن، أو حينما تنساب في زرقة على الورق من قلم الحبر، في جمال التنسيق وتغيير الفقرات واستبدال الكلمات، في نطقها ونغمها وإيقاعها.

وعلى سيرة الإيقاع، فإن سايمون كريتشلي يسخر في كتابه من نظرة الأمريكان إلى كرة القدم بوصفها لعبة مملة، ويقول: “إنّهم هم المثيرون للسأم باعتقادهم ذلك، فكرة القدم تحثّ على التأمل والاستغراق أكثر من أيّة رياضة أخرى، إذ هي بمنزلة خبرة الخضوع لإيقاع المباراة”، وأظن أن من أهم دروس الكتابة الجيدة أن تخضع لإيقاعها، والخطوة الأولى أن تتعرف على هذا الإيقاع وتُسلّم له، وهو يختلف من نص لآخر، ومتى ما قبضت عليه وكتبت على ضرباته، وصلت إلى اللحظة التي يسمّيها سايمون بـ زمن كلوب (klopp-time).

ولأن كريتشلي من مشجعي ليفربول، فقد انطلق في أكثر فقرات من خبرة تشجيعه لهذا النادي، ومن مراقبته للمدرب يورغن كلوب ومتابعة تصريحاته، ويستشهد في هذا الخصوص بمباراة جمعت بين ليفربول بقيادة يورغن كلوب، والنادي الألماني دورتموند وهو الفريق الذي دربه كلوب قبل انتقاله إلى ليفربول.

في تلك المباراة سجل دورتموند هدفين في مرمى ليفربول خلال العشر دقائق الأولى من زمن المباراة، وانتهى مجموع مباراتي الذهاب والإياب بنتيجة 3/1 لصالح دورتموند، لكن ما حدث أن كلوب كان في غاية الهدوء، ومضى إلى غرفة الملابس بين الشوطين للحديث مع لاعبيه.

لماذا كان هادئًا؟ يقول سايمون: “ليس مفتاح فهم مقاربة كلوب لكرة القدم في التركيز على الأهداف التي يتلقّاها في مرماه، أو على الهزائم التي يُمنى بها؛ فكلّ فريق سيأتي عليه يوم يلقى الهزيمة فيه. لكن كلوب يركز دائمًا على الأداء تركيزًا لا يعرف التواني أو التهاون”، إنها تلك اللحظة نفسها التي تحدث عنها محمد صلاح في لقائه، أن أكون دائمًا بداخل النص، بحثًا عن الإيقاع ولو لم أمتلك الزخم قبلها، فرغم كل شيء سأجد اللحظة في لحظة ما!

ولكن قد لا أجد اللحظة أبدًا، قد أكون مثل منتخب إنكلترا، كما يصف سايمون مشاهدة لعب منتخب بلاده فيقول: “يدور اللاعبون حول أنفسهم بلا طائل، ولا تكفّ الكرة عن الركض بين جنبات الملعب، أو تعود إلى حارس المرمى، ويتسمر المهاجمون في أماكنهم من دون سبب معلوم، أو يركضون نحو مساحة لن تبلغها الكرة أبدًا، فيسري بين اللاعبين إحساسٌ ملموسٌ بالخوف، ثم تسري عدوى الخوف إلى المشجعين ممزوجةً بالاشمئزاز، وكلما تصاعدت وتيرة المجهود البدني للاعبين، بدوا كم لو كانوا أسرى بيتٍ من بيوت العنكبوت، نسجَ الفناءُ خيوطَه… يعي المشجعون بداهةً كل ما يجري أمام أعينهم، فيغوصون في مقاعدهم وقد عقدت الدهشةُ ألسنتَهم، وغلب الإحباطُ على نفوسهم. في الواقع إن الأمر أسوأ من ذلك، لأنه طالما لم تنته المباراة، أي ما زالت هناك دقائق معدودة من الوقت بدل الضائع، تظل الآمال تراودنا”.

وكلنا جربنا هذا الإحساس أثناء كتابة نص لم نقبض على إيقاعه، تبدو الجمل مبتورة، والكلمات في غير أماكنها، والمعجم ناقص، والفقرات مقلوبة، لا بداية مشجعة، ولا خاتمة ملهمة، نصٌ مخنوقٌ تمامًا.

وفي حين أن مثل هذا الأمر كان يحبطني، ويدفعني للتوقف عن التدوين، فإنني أنوي هذه المرة أن أواصل التدوين كل أسبوع، التدوين لا غيره من أنماط الكتابة التي سأواصل ممارستها رغمًا عني وبرغبتي، ولكنها لا تشبه التدوين، هذه الكتابة الغامضة المنفلتة من العقال، مثلما يصف الاقتباس الذي وضعه سايمون في طرة كتابه لوليام جيمس: “العُطلة أثمن أوقات الحياة، لا لشيء سوى أنها تكتسي بمثل هذا الضرب من الفتنة المنفلتة من العقال، أو على الأقل يجب أن تكون كذلك”.

والتدوين كذلك، وإن لم أصل إلى لحظة كلوب مع كل تدوينة فلا تثريب علي، لأنه كما يقول سايمون كريتشلي: “هناك موسمٌ جديدٌ دومًا .. أليس كذلك؟”.


اكتشاف المزيد من دفاتر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

6 آراء على “فيم أفكر حين أفكر في التدوين وليفربول ومحمد صلاح؟

  1. جميل جداً جداً جداً

    شكراً لك وفي حال أردت أستطيع القول لك بارتياح لقد أدركت لحظة كلوب بامتياز ربما للدرجة التي وصلها وهو يقسو علينا على ملعبنا وبـ سبعةٍ مؤلمة لا تُنسى! 😂💔

    Liked by 1 person

أضف تعليق